تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 371 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 371

371 : تفسير الصفحة رقم 371 من القرآن الكريم

** رَبّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ * وَاجْعَل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الاَخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنّةِ النّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأبِيَ إِنّهُ كَانَ مِنَ الضّآلّينَ * وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
وهذا سؤال من إبراهيم عليه السلام أن يؤتيه ربه حكماً. قال ابن عباس: وهو العلم. وقال عكرمة: هو اللب, وقال مجاهد: هو القرآن. وقال السدي: هو النبوة. وقوله {وألحقني بالصالحين} أي اجعلني مع الصالحين في الدنيا والاَخرة, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الاحتضار «اللهم في الرفيق الأعلى» قالها ثلاثاً. وفي الحديث في الدعاء «اللهم أحينا مسلمين, وأمتنا مسلمين, وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مبدلين» وقوله {واجعل لي لسان صدق في الاَخرين} أي واجعل لي ذكراً جميلاً بعدي أذكر به ويقتدى بي في الخير, كما قال تعالى: {وتركنا عليه في الاَخرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين}.
قال مجاهد وقتادة {واجعل لي لسان صدق في الاَخرين} يعني الثناء الحسن. قال مجاهد: كقوله تعالى {وآتيناه في الدنيا حسنة} الاَية, وكقوله {وآتيناه أجره في الدني} الاَية, قال ليث بن أبي سليم: كل ملة تحبه وتتولاه, وكذا قال عكرمة. وقوله تعالى: {واجعلني من ورثة جنة النعيم} أي أنعم عليّ في الدنيا ببقاء الذكر الجميل بعدي, وفي الاَخرة بأن تجعلني من ورثة جنة النعيم. وقوله {واغفر لأبي} الاَية, كقوله {ربنا اغفر لي ولوالدي} وهذا مما رجع عنه إبراهيم عليه السلام, كما قال تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ـ إلى قوله ـ إن إبراهيم لأواه حليم} وقد قطع تعالى الإلحاق في استغفاره لأبيه فقال تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ـ إلى قوله ـ وما أملك لك من الله من شيء}.
وقوله: {ولا تخزني يوم يبعثون} أي أجرني من الخزي يوم القيامة يوم يبعث الخلائق أولهم وآخرهم. وقال البخاري عند هذه الاَية: قال إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري, عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة». وفي رواية أخرى: حدثنا إسماعيل, حدثنا أخي عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يلقى إبراهيم أباه فيقول: يا رب إنك وعدتني أنك لا تخزيني يوم يبعثون, فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين» هكذا رواه عند هذه الاَية. وفي أحاديث الأنبياء بهذا الإسناد بعينه منفرداً به, ولفظه «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة, وعلى وجه آزر قترة وغبرة, فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصيني, فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك, فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون, فأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين, ثم يقال: يا إبراهيم انظر تحت رجلك, فينظر, فإذا هو بذيخ متلطخ, فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» وقال عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه الكبير.
وقوله {ولا تخزني يوم يبعثون} أخبرنا أحمد بن حفص بن عبد الله, حدثني أبي, حدثني إبراهيم بن طهمان عن محمد بن عبد الرحمن, عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة, وقال له: قد نهيتك عن هذا فعصيتني, قال: لكني اليوم لا أعصيك واحدة, قال: يا رب وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون, فإن أخزيت أباه فقد أخزيت الأبعد. قال: يا إبراهيم إني حرمتها على الكافرين فأخذ منه. قال: يا إبراهيم أين أبوك ؟ قال: أنت أخذته مني, قال: انظر أسفل منك, فنظر, فإذا ذيخ يتمرغ في نتنه, فأخذ بقوائمه فألقي في النار» وهذا إسناد غريب, وفيه نكارة, والذيخ هو الذكر من الضباع, كأنه حول آزر إلى صورة ذيخ متلطخ بعذرته فيلقى في النار كذلك, وقد رواه البزار بإسناده من حديث حماد بن سلمة عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه غرابة, ورواه أيضاً من حديث قتادة عن جعفر بن عبد الغافر عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقوله {يوم لا ينفع مال ولا بنون} أي لا يقي المرء من عذاب الله ماله ولو افتدى بملء الأرض ذهباً {ولا بنون} أي ولو افتدى بمن على الأرض جميعاً, ولا ينفع يومئذ إلا الإيمان بالله وإخلاص الدين له, والتبري من الشرك وأهله, ولهذا قال {إلا من أتى الله بقلب سليم} أي سالم من الدنس والشرك. قال ابن سيرين: القلب السليم أن يعلم أن الله حق, وأن الساعة آتية لا ريب فيها, وأن الله يبعث من في القبور. وقال ابن عباس {إلا من أتى الله بقلب سليم} حَيِيَ أن يشهد أن لا إله إلا الله. وقال مجاهد والحسن وغيرهما {بقلب سليم} يعني من الشرك. وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو القلب الصحيح, وهو قلب المؤمن, لأن قلب المنافق مريض, قال الله تعالى: {في قلوبهم مرض}. قال أبو عثمان النيسابوري: هو القلب السالم من البدعة, المطمئن إلى السنة.

** وَأُزْلِفَتِ الْجَنّةُ لِلْمُتّقِينَ * وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللّهِ إِن كُنّا لَفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ * وَمَآ أَضَلّنَآ إِلاّ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنّ لَنَا كَرّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ
{أزلفت الجنة} أي قربت وأدنيت من أهلها مزخرفة مزينة لناظريها, وهم المتقون الذين رغبوا فيها على ما في الدنيا, وعملوا لها في الدنيا {وبرزت الجحيم للغاوين} أي أظهرت وكشف عنها, وبدت منها عنق فزفرت زفرة بلغت منها القلوب الحناجر, وقيل لأهلها تقريعاً وتوبيخاً {أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون} أي ليست الاَلهة التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئاً, ولا تدفع عن أنفسها, فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون.
وقوله {فكبكبوا فيها هم والغاوون} قال مجاهد: يعني فَدُهْوِرُوا فيها. وقال غيره: كبوا فيها, والكاف مكررة, كما يقال صرصر, والمراد أنه ألقى بعضهم على بعض من الكفار وقادتهم الذين دعوهم إلى الشرك {وجنود إبليس أجمعون} أي ألقوا فيها عن آخرهم {قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين} أي يقول الضعفاء للذين استكبروا: إنا كنا لكم تبعاً, فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار ؟ ويقولون وقد عادوا على أنفسهم بالملامة {تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين} أي نجعل أمركم مطاعاً كما يطاع أمر رب العالمين, وعبدناكم مع رب العالمين {وما أضلنا إلا المجرمون} أي ما دعانا إلى ذلك إلا المجرمون {فما لنا من شافعين} قال بعضهم: يعني من الملائكة كما يقولون {فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل} وكذا قالوا {فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم} أي قريب.
قال قتادة: يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحاً نفع, وأن الحميم إذا كان صالحاً شفع {فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين} وذلك أنهم يتمنون أن يردوا إلى دار الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون, والله تعالى يعلم أنهم لو ردّهم إلى دار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون, وقد أخبر الله تعالى عن تخاصم أهل النار في سورة (ص) ثم قال تعالى: {إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} ثم قال تعالى: {إن في ذلك لاَية وما كان أكثرهم مؤمنين} أي إن في محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد لاَية, أي لدلالة واضحة جلية على أن لا إله إلا الله {وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم}.

** كَذّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتّقُونَ * إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَىَ رَبّ الْعَالَمِينَ * فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ
هذا إخبار من الله عز وجل عن عبده ورسوله نوح عليه السلام, وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد ما عبدت الأصنام والأنداد, فبعثه الله ناهياً عن ذلك ومحذراً من وبيل عقابه, فكذبه قومه, فاستمروا على ما هم عليه من الفعال الخبيثة في عبادتهم أصنامهم مع الله تعالى: ونزل الله تعالى تكذيبهم له منزلة تكذيبهم جميع الرسل, فلهذا قال تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون} أي ألا تخافون الله في عبادتكم غيره {إني لكم رسول أمين} أي إني رسول من الله إليكم, أمين فيما بعثني الله به, أبلغكم رسالات ربي ولا أزيد فيها ولا أنقص منها {فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر} الاَية, أي لا أطلب منكم جزاء على نصحي لكم, بل أدّخر ثواب ذلك عند الله {فاتقوا الله وأطيعون} فقد وضح لكم وبان صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني الله به وائتمنني عليه.